وتتناول الدراسة الجماعات الوظيفية اليهودية وتاريخها وأسباب تحولها من مجرد جماعات أو أقليات عرقية أو دينية إلى جماعات وظيفية تقوم بوظائف محددة مثل الربا وجمع الضرائب والتجارة والقتال.
وتحاول الدراسة تقديم رؤية جديدة للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للجماعات اليهودية الوظيفية في العالم الغربي وبخاصة شرق أوروبا، وعلاقة الجماعات الوظيفية اليهودية بالتحديث ونشأة الرأسمالية في الغرب.
وتتناول أيضا مفهوم الدولة الوظيفية الصهيونية التي أسسها الاستعمار الغربي وغرسها في فلسطين لتدافع عن مصالحه مقابل دعمها وضمان استمرارها وبقائها، فعلاقة الدولة الصهيونية بالإمبريالية الراعية لا تختلف في جوهرها عن علاقة الجماعات الوظيفية بالنخب الحاكمة التي جندتها.
”
لقد كان العبرانيون منذ بداية ظهورهم في التاريخ جماعة وظيفية فقد عمل بعضهم جنودا مرتزقة لدى الدول والممالك المحيطة كما في مصر الفرعونية والبطليمية وسوريا السلوقية، وقد أسر مئات الآلاف منهم وهجروا إلى بابل وآشور وتخصصوا هناك في وظائف بعينها دون غيرها
”
توظيف التاريخ
لقد جرى تفسير التاريخ وتحليله وفق إعداد مسبق يهدف إلى تغيير إدراك الواقع لخدمة مصالح معينة واستبعاد إدراك الآخرين وإهمال مصالحهم، وهذه الظاهرة تتضح في الصراع العربي الإسرائيلي، فالمقولات التحليلية الأساسية صيغت داخل التشكيل الحضاري الغربي، وهي مقولات مستمدة من "العهد القديم" بعد علمنتها، فالشعب المختار يصبح الشعب اليهودي، وأرض الميعاد تصبح الوطن القومي اليهودي، والعودة لليهود حسب الوعد الإلهي تصبح استيطان اليهود في فلسطين حسب وعد بلفور، ورغم محاولة العقل العربي مقاومة هذه الإمبريالية الإدراكية فإنها أحكمت وثاقها عليه فلم يوفق كثيرا في الانسلاخ منها.
ومن المقولات المسيطرة مقولة "التاريخ اليهودي" التي استقرت في وعينا وإدراكنا لرغم أن اليهود ليس لهم تاريخ واحد، فيهود اليمن وإثيوبيا يختلفون في تاريخهم ولغتهم وثقافتهم عن يهود الولايات المتحدة وهؤلاء يختلفون عن غيرهم أيضا، والواقع أن يهود كل بلد يقع تاريخهم في إطار تاريخ البلد، وإلا فلم يتحدث يهود الفلاشا بالأمهرية ويتعبدون بالجعيزية لغة الكنيسة القبطية، بينما يتحدث يهود الولايات المتحدة بالإنجليزية ويتعبد معظمهم بها.
وبعد أن فرضت مقولة التاريخ اليهودي جرى التركيز بعناية على بعض الفترات واستبعدت فترات وحقائق أخرى، فيقدم الشتات اليهودي مثلا على أنه جرى على يد تيطس الروماني عام 70م دون ملاحظة الهجرة الطوعية والتسرب العادي لليهود في جميع أنحاء العالم، وأن ملك اليهود أجريبا الثاني كان حليفا لتيطس وكانت أخته بيرنيكي عشيقة للقائد الروماني.
وهذا مثال فقط من بين مئات وآلاف الحالات التي أسقطت أو أظهرت في كتابة التاريخ وتفسيره وتحليله ومن بينها الدور الوظيفي للجماعات اليهودية والدولة الصهيونية.
اليهود والانتماء الطبقي
يصعب تحديد الطبقات التي ينتمي إليها اليهود، فهم مجتمعات مختلفة، ولعل التعميم الوحيد الذي يصح تطبيقه هنا هو أنهم خاضعون لحركيات المجتمعات التي ينتمون إليها، فقد كان العبرانيون الأوائل رعاة رحلا، وبعد الاستقرار في عصر الملكية انقسم المجتمع العبراني إلى طبقة حاكمة تتكون من الملك وكبار الملاك والنخبة العسكرية وطبقات أخرى من الحرفيين والأرقاء، وبعد سقوط الدولة كان منهم الحرفيون والكهنة وكبار الرأسماليين والمثقفون والعلماء، فأعضاء الجماعات اليهودية جزء لا يتجزأ من مجتمعاتهم.
”
أهم العوامل التي أدت إلى تحول كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية هو طبيعة المجتمع الإقطاعي في الغرب ووجود ثغرة في المجتمع بين رغباته وحاجاته وبين مقدرته على الوفاء بها من جهة أخرى، فقد كان النشاطان الأساسيان في المجتمع هما القتال والزراعة، فقامت الجماعات اليهودية بالوظائف المالية والحرف
”
لماذا وكيف تحول اليهود إلى جماعات وظيفية؟ لقد كان العبرانيون منذ بداية ظهورهم في التاريخ جماعة وظيفية فقد عمل بعضهم جنودا مرتزقة لدى الدول والممالك المحيطة كما في مصر الفرعونية والبطليمية وسوريا السلوقية، وقد أسر مئات الآلاف منهم وهجروا إلى بابل وآشور وتخصصوا هناك في وظائف بعينها دون غيرها.
وبعد التهجير البابلي بدؤوا يعملون بالزراعة والصرافة وبعضهم تحول إلى جماعات قتالية واستيطانية، وكانت القوى الإمبراطورية الصاعدة في الشرق الوسط تتحالف مع الجماعات اليهودية وتجندهم كمرتزقة وجواسيس. وكانت فكرة الوطن الأصلي لدى اليهود سببا في إضعاف علاقتهم بوطنهم الجديد وعزلتهم عن مجتمعاتهم.
ولكن أهم العوامل التي أدت إلى تحول كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية هو طبيعة المجتمع الإقطاعي في الغرب ووجود ثغرة في المجتمع بين رغباته وحاجاته ومقدرته على الوفاء بها من جهة أخرى، فقد كان النشاطان الأساسيان في المجتمع هما القتال والزراعة، فقامت الجماعات اليهودية بالوظائف المالية والحرف، حيث كانوا هم الأقلية الوحيدة في الغرب.
وظهرت قوانين في العصور الوسطى تمنع اليهود من امتلاك الأراضي الزراعية كما أن عطلة السبت والأحد جعلت النشاط الزراعي غير مربح لليهود وأحيانا مستحيلا.
وكانت الطبيعة الطائفية لليهود وضرورة القيام بالشعائر الدينية سببا في تجمعهم معا في المدن فزاد عملهم في التجارة وتبلور وضعهم كجماعة وسيطة تجارية أو مالية.
وتسارعت عمليات تحويل اليهود إلى جماعات وظيفية بدءا بالقرن التاسع الميلادي، وبدؤوا يعملون لدى النبلاء في التجارة والربا وجمع الضرائب، واشتغلوا بالتجارة الدولية مع العالم الإسلامي في المنسوجات والتوابل والرقيق والصيرفة، واشتغلوا بالحرف التي تتطلب مهارة فنية مثل الزجاج والصباغة والذهب والجلود والخمور، ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي أصبح ذلك هو الوضع القانوني والاقتصادي لمعظم الجماعات اليهودية في أوروبا الإقطاعية.
سمات الجماعات الوظيفية
اتسمت علاقة الجماعات اليهودية بالمجتمع الغربي بأنها نفعية تعاقدية، وكانوا حتى أوائل القرن التاسع عشر يعتبرون من الأملاك الخاصة للحكام يرثهم من يرث العرش.
وكان اليهود يستجلبون لمهمة معينة ويفرض عليهم الإقامة في غيتو خاص بهم يرتدون أزياء خاصة مقصورة عليهم، وقد سيطرت القيادات الدينية والدنيوية التي كانت تتمتع بدعم النخبة الحاكمة على هذه الشبكة المغلقة، وتزايد اعتماد الجماعات اليهودية على الحكام حتى كانوا أداة قمع في يدهم لقمع الجماهير واستغلالها، وأدت هذه العزلة إلى جعل الجماعات اليهودية على حدود المجتمعات أو على هامشها.
ويتعمق إحساس عضو الجماعة الوظيفية بهويته وهو في الوقت نفسه بحاجة إلى أن يكون جزءا من المجتمع المحيط الكلي ليؤدي وظيفته، وتظهر هنا ازدواجية المعايير واختلاف تطبيقها على الجماعة وعلى المجتمع الخارجي.
وكان أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر الجماعات حركية داخل التشكيل الحضاري الغربي، فهم لم يكونوا مرتبطين بالأرض مثل الفلاحين أو النبلاء ولا بالمدن مثل سكانها، وإنما كانوا يتنقلون بحرية في المجتمع الوسيط بحماية الحاكم، وساعدت عمليات الهجرة والإبعاد المستمرة على تعميق هذه الحركية.
الجماعات الاستيطانية القتالية
كان العبرانيون القدامى مرتزقة، ويرى البعض أن التسمية مستمدة من "خابيرو" وتعني الجندي المرتزق، وكانت الكلمة تطلق على أي جماعات من الرحل أو الغرباء أو الأشقياء المستعدين للانضمام إلى صفوف أي جيش لقاء أجر أو بدافع الحصول على غنائم، ولعل اشتراكهم مع الهكسوس في غزو مصر كان من هذا القبيل، وقد حارب بعضهم مع الفلستيين (الفلسطينيين) كمرتزقة ضد بني جلدتهم.
وجمع الملك العبراني أمصيا (798- 769 ق.م) جيشا من المرتزقة وحاول إخضاع أدوم، واستعان بهم الفرعون بسماتيك الأول (663- 605 ق.م) الذي كون جيشا من المرتزقة من بينهم اليهود، ووطن بسماتيك الثاني (594- 589 ق.م) جماعة استيطانية في جزين إلفنتاين.
ويلاحظ أن الدياسبورا (أي انتشار اليهود في بقاع الأرض) مرتبطة بالاستيطان والقتال كمرتزقة، ولا علاقة لهذا الانتشار بتدمير الهيكل عام 70م كما يدعي الصهاينة، ولم يكن التهجير البابلي والآشوري لتأديب العبرانيين وحسب وإنما ليكونوا جماعة وظيفية استيطانية، فقد شغلوا بالزراعة والأعمال المالية، وقد استخدم الفرس العبرانيين كجماعة استيطانية قتالية، وعمل اليهود أيضا في الجاسوسية.
وغيرت حامية إلفنتاين القائمة على اليهود ولاءها من السلطة المصرية إلى الفارسية حسب تغير موازين القوى، وحينما فتح الإسكندر المقدوني الشرق الأدنى استخدم اليهود استخداما واسعا كجماعات قتالية استيطانية، وكان الحكم البطلمي والسلجوقي قائما أساسا على المرتزقة، وقد أبقى الإسكندر على المزايا التي منحها الفرس لليهود فانضموا إلى الجيوش اليونانية، واستخدمهم البطالمة في مصر مرتزقة وتجارا وموظفين وملتزمي ضرائب، ووطنت أعداد كبيرة منهم في معسكرات باعتبارهم وحدات قتالية استيطانية (كليروخوا) وقد سلم بطليموس السادس (180- 145ق.م) مملكته إلى اليهود حتى وصلوا إلى أعلى المراتب القيادية والعسكرية.
وقامت الدولة العثمانية بتوطين جماعات يهودية في قبرص والمجر كجماعات وظيفية استيطانية موالية لها لموازنة العنصر المسيحي.
وتعد أهم تجربة استيطانية لليهود قبل قيام الدولة الصهيونية في فلسطين هي تجربتهم كجماعة استيطانية قتالية في إطار الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا.
وكانت أهم التجارب الاستيطانية في العصر الحديث هي الاستيطان في القارة الأميركية وقد أقام اليهود المستوطنون شبه دولة في برزدنيتس عام 1670 ولكن الثوار العبيد قضوا عليها عام 1774.
ولا ينظر الغرب إلى الدولة الصهيونية القائمة إلا من منظور مدى نفعها، فهي تارة ثروة إستراتيجية، وهي تارة أخرى حاملة طائرات وحارس للمصالح الغربية، ولكنها في جميع الأحوال أداة ووسيلة وليست غاية أو هدفا.
وعمل كثير من الإسرائيليين مرتزفة في بعض دول العالم الثالث، فقد عمل أكثر من ألفي جندي إسرائيلي في أفريقيا كطيارين ومظليين، وبعضهم يعمل في شركات أمن خاصة مثل شركة ليفدان.
جماعات وظيفية تجارية
ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية بمهنة التجارة في كثير من المجتمعات الإنسانية، وتبلور هذا الدور في المجتمعات الإسلامية وكان اليهود بانتشارهم في حوض البحر المتوسط حلقة تجارة دولية وجسرا تجاريا بين العالمين الإسلامي والمسيحي.
وعملوا في الإقراض المالي (الربا) وكانت الكنيسة تحرم الربا ولكن اليهودية تحرمه على اليهود وتسمح لهم بالإقراض بالربا لغيرهم، وبزيادة الحاجة إلى المال السائل كما حدث في الحروب الصليبية، وفي مرحلة النهضة الصناعية والرأسمالية أصبحت عمليات الإقراض ثم البنوك أساسية في النظام الاقتصادي، وجعل هذا اليهود يتحولون من التجارة إلى الربا، حتى إن معظم السكان في غرب أوروبا ووسطها كانوا مدينين لليهود حتى أصبحت كلمتا يهودي ومرابي مترادفتين.
وبسبب حاجة اليهود إلى حماية البلاط الحاكم ولسداد قروضهم للحكام فقد ارتبطوا بالإقطاع والنخب الحاكمة وجمع الضرائب فكانوا محط كراهية الناس إضافة إلى الربا الذي كان سببا أساسيا في الحقد والكراهية.
جماعات وظيفية أخرى
وعمل اليهود في جماعات وظيفية أخرى ارتبطت بهم تماما في بعض الأمكنة والأزمنة، منها جمع الضرائب والتموين والإمداد للجيوش (التعهدات العسكرية) وصناعة الخمور وتجارتها وتجارة الرقيق والبغاء والإعلان والجاسوسية والترجمة وحاشية البلاط الحاكم (الحراسة والإدارة والطهو والطب والشؤون المالية والترفيه).
إسرائيل دولة وظيفية
تعد دولة إسرائيل أهم وأخطر تجليات الدور الوظيفي الذي يؤديه اليهود للغرب، وقد عبر عن ذلك قادة إسرائيليون بصراحة ووضوح، فيقول يعقوب ميريدو وزير التخطيط الإسرائيلي
عن أن بديل إقامة إسرائيل للولايات المتحدة هو عشر حاملات للطائرات يكلف بناؤها خمسين بليون دولار، وذلك بالطبع عدا تشغيلها وتكلفة الجنود والحرج السياسي الذي يسببه وجود هذه القوات.
وكانت إسرائيل مشروعا استيطانيا قتاليا (مملوكيا) وصيغة مطورة للجماعة الاستيطانية. فقد كان ثمة حاجة لدى الغرب لتأسيس جيب استيطاني قتالي مملوكي يشكل قاعدة للاستعمار الغربي في فلسطين وبخاصة مع توقع سقوط الدولة العثمانية، وكان اليهود مرشحين لتوفير المادة البشرية بسبب النزوع الصهيوني نحو الهجرة إلى فلسطين، وبسبب فقدان الجماعات الوظيفية اليهودية أهميتها في الغرب بعد نشوء الدول المركزية وانتهاء الإقطاع.
”
في عام 1996 أعلن عن قيام حلف دفاعي بين الولايات المتحدة وإسرائيل يستند إلى مجموعة من الخدمات التي يمكن أن توفرها إسرائيل، وهي: موقع جغرافي مثالي لانطلاق القوات الأميركية، وبنى تحتية من الاتصالات والمواصلات، وخبرات حية في البحث والتطوير والاستخبارات وقدرة دفاعية تحمي التدخل الأميركي
”
وكانت إسرائيل بالنسبة للغرب مشروعا مجزيا من الناحية الإستراتيجية بالسيطرة الغربية على مركز القوة السياسية العالمية الحقيقي والمركز العسكري الإستراتيجي كما يقول ناحوم غولدمان، وكانت إسرائيل ذراعا مستقبلية محتملة للولايات المتحدة وخدمة حربية جاهزة على أهبة الاستعداد لتأدية الخدمات في أي وقت.
وكانت مجزية من الناحية الاقتصادية، فيقول وايزمان "هل تمت أي عملية استعمارية أخرى غير إسرائيل تحت ظروف مواتية أكثر من هذه: أن تجد الحكومة البريطانية أمامها منظمة لها دخل كبير، ولديها استعدادها بأن تقوم بجزء من مسؤوليتها التي تكلف الكثير.
وكتبت مجلة الإيكونومست عام 1985 "إذا كانت أميركا تدفع ثلاثين بليون دولار كل عام لحلف الأطلسي فإن إسرائيل وهي المخفر الأمامي والقاعدة المستقبلية تستحق خدمة رخيصة أقل تكلفة لأميركا والغرب من أي خيار آخر" فهي عقد نفعي بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية العالمية لايزال نافذا ولايزال عائده مجزيا.
وفي عام 1996 أعلن عن قيام حلف دفاعي بين الولايات المتحدة وإسرائيل يستند إلى مجموعة من الخدمات التي يمكن أن توفرها إسرائيل، وهي: موقع جغرافي مثالي لانطلاق القوات الأميركية وبنى تحتية من الاتصالات والمواصلات، وخبرات حية في البحث والتطوير والاستخبارات وقدرة دفاعية تحمي التدخل الأميركي.