التأثيرات الأجنبية على الجمعيات والهيئات المحلية : دراسة حالة
وحقيقة الأمر أن مسألة القصد أو عدم القصد إنما يمكن حسمها إلى حد كبير من خلال النظر في الأهداف المعلنة ومصادر التمويل ومصادر التوجيه الأيديولوجي المرتبطة بها في مؤسساتنا الوطنية المحلية ، وقد يفيدنا هنا أن نعرض بشيء من التفصيل لما يشبه دراسة الحالة لدور المنظمات الدولية ، ودور حكومات الدول الأجنبية (من خلال سفاراتها ، أو هيئات "التنمية" التابعة لها ، أو المنظمات الطوعية الأجنبية التي تتلقى الأموال منها) في توجيه الجمعيات المصرية غير الحكومية ، بل والهيئات الحكومية وشبه الحكومية فيما يتصل بمجال قضايا المرأة والأسرة ، فقد كفتنا سناء المصري في كتابها المعنون "تمويل وتطبيع: قصة الجمعيات غير الحكومية " مؤونة البحث والتنقيب عن أهداف ومصادر تمويل تلك الجمعيات والهيئات ، وذلك بالرغم من نطاق السرية الذي تفرضه تلك الجمعيات على هذا النوع من المعلومات والذي وصفته المؤلفة "بالحذر الشرس" .
تعرضت المؤلفة في البداية لما حدث في مؤتمر المرأة في المكسيك عام 1995 ، فقالت "على إثر النقد الذي وجهته الدول الكبرى هناك لوضع المرأة المصري والقوانين الخاصة بها قدمت عائشة راتب [وزيرة الشؤون الاجتماعية] بعد عودتها من المؤتمر مشروعا لتعديل قانون الأحوال الشخصية ، لكن رفضه الأزهر وطلبت السلطة السياسية سحبه .. ثم تم إعداد مشروع قانون للأحوال الشخصية تبنته السيدة جيهان السادات وتم إصداره سنة 1979 ، وبعد اغتيال السادات وابتعاد جيهان السادات عن السلطة … صدر حكم المحكمة الدستورية بإلغاء العمل بالقانون" ، وقد عقبت المؤلفة على ذلك بقولها "ونلاحظ أن التحرك الرسمي لتغيير القانون أيام جيهان السادات جاء نتيجة ضغط خارجي أكثر مما هو نتيجة ضغط داخلي" ، ثم أشارت إلى أننا سنرى أن "سياسة الرضوخ للضغوط الخارجية لتغيير وضع المرأة" أكثر وضوحا اليوم فيما يتصل "بالموضوعات المثارة على جدول أعمال الحركة النسائية الحالية بشقيها الحكومي وغير الحكومي وتوجهاتها الخارجية" (المصري ، 1998 : 56-57).
إن من يراجع البيانات التي تعرضت لها المؤلفة بالتفصيل لديناميات إنشاء الجمعيات غير الحكومية العاملة في قطاع المرأة وظروف حصولها على التمويل من الهيئات الأجنبية المتعددة ، بغرض تنفيذ البرامج والمشروعات التي تريدها تلك الجهات الأجنبية ، لا يملك إلا أن يصيبه العجب من جرأة تلك الهيئات في محاولاتها التي لا تلين لتشكيل السياسات الاجتماعية في مصر على الوجه الذي تريده مهما تناقض ما تدعو إليه مع ثقافة الأمة وديانتها ، مما يتنافى مع احترام السيادة الوطنية والقومية ، ولكن الأشد إثارة للدهشة هو قيام الهيئات الحكومية أو شبه الحكومية بنفس الدور ولكن على نطاق أوسع ، فالمؤلفة تخبرنا بأن الحكومة المصرية قد "دخلت بنفسها تلك اللعبة فأنشأت الصندوق الاجتماعي للتنمية بمساعدة البنك الدولي ومجموعة من المانحين وألحقته بمجلس الوزراء مباشرة عام 1991 لتخلق عن طريقه قناة رسمية جدا يمر عبرها المال الدولي إلى الجمعيات … فالصندوق هو مجرد وسيط يخفي تماما مصدر المال ، ويعطي عبر مصفاة محلية قروضا صغيرة للأفراد والجمعيات ، وبالصندوق وحدة كاملة لبرامج المرأة تستورد مع المال الدولي أفكارا دولية للتنمية ، ومنها فكرة الجندر والتنمية أو الجنس والتنمية وهي نفس الفكرة التي استوردتها الجمعيات غير الحكومية مرفقة بالتمويل" (ص. ص. 80-81 ) .
وتنتقل المؤلفة لدراسة ملابسات مشاركة الهيئات الحكومية و غير الحكومية في العمل الناشط والمتحمس لقضية غريبة هي مايعرف "بختان البنات" ، فتبدأ بملاحظة "أن قضية ختان الإناث التي يدور حولها نشاط الجمعيات غير الحكومية المعنية بقضية المرأة قد بدأت الإشارة لها ولفت الانتباه من الخارج أولا …بإشارات عابرة في البداية ثم زاد التأكيد عليها في السنوات الأخيرة … [ثم] زاد التوجيه الخارجي ، وسارعت الأجهزة المعنية بإجراء مسح سكاني عن الظاهرة ووجدوا أن نسبة إجراء الختان في مصر تصل إلى 97% ، وزاد الاهتمام بعد عقد مؤتمر السكان في القاهرة 1994" (ص 115) . وبعد تكوين "اللجنة القومية للمنظمات غير الحكومية للسكان والتنمية" تفرع عنها "مجموعة العمل المعنية بختان الإناث" وتضم الآن حوالي ستين جمعية غير حكومية تعمل بالتعاون مع وزارة السكان وتنظيم الأسرة وتربطها علاقات وثيقة مع جهات مختلفة في الخارج" ، وقد ذكرت المؤلفة منها بعض الهيئات الأمريكية والهولندية والكندية والدنمركية ، ولكنها توقفت عند الخبر التالي …"طلبت الأستاذة باربرا ربيسجروف السكرتير الثاني للقسم السياسي للسفارة الأمريكية الالتقاء بممثل عن مجموعة العمل المعنية بختان الإناث ، وقد قابلتها د. سهام عبد السلام وجرى بينهما حوار حول الموضوع" ، ثم أبدت المؤلفة تساؤلا يبدو لنا معقول تماما "عن سر اهتمام صناع القرار في الدنمرك والسفارات الأجنبية بموضوع ختان الإناث … نتساءل عن سر الاهتمام المبالغ فيه من هذه الجهات الغامضة وسر الملايين المخصصة للإنفاق على هذه القضية … نتساءل عن سر توصيات المانحين للجمعيات غير الحكومية بتركيز العمل في هذه القضية ؟ وإمعانا في إرضاء المانحين يتسابق الحكوميون وغير الحكوميين في إبراز اهتمامهم بقضايا ختان الإناث وغيرها من الموضوعات المفضلة لدى الخارج …ولذلك فإننا لا نعجب حينما نقرأ …‘صرحت د. ناهد متى من هيئة المعونة الأمريكية بأن وزير الصحة طلب قبل سفره لأمريكا نشر تقرير المسح السكاني الصحي بأكمله بما فيه الجزأين الخاصين بختان الإناث والعنف ضد المرأة‘ ، حتى ترى أمريكا مدى اهتمام الوزير والوزارة والحكومة كلها بقضية ختان الإناث وحتى يحسن المانحون استقباله هناك" (ص. ص. 117-121).
تشير دراسة الحالة السابقة بوضوح إلى بعض صور وأنماط التأثير الأجنبي على القرار المحلي ، وبالرغم من أن النشاط الطوعي الأصيل المدفوع بدوافع عمل الخير لخدمة أبناء الوطن قد كان دائما من الأعمدة التي قامت عليها برامج الرعاية الاجتماعية ، وبالرغم من أن ثورة الاتصالات والمعلومات الحالية (الوجه الأول للعولمة) يمكن أن تعطي قوة دفع جديدة لزيادة فاعلية مثل تلك الجهود ، فإننا قد رأينا أيضا أن العولمة في وجهها الآخر (الحمولة الأيديولوجية والسعي النشط للهيمنة) يمكن أن تؤدي إلى نتائج وخيمة تعاني آثارها الشعوب … وعلى أيدي قلة من المنتفعين الذين أشارت سناء المصري إلى موقفهم بأنه "خيانة المثقفين" ، ولكن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا السياق هو أن التحولات الكبرى في التاريخ تصحبها عادة فترات انتقالية يمكن أن تظهر فيها بل -وتتفشى- العديد من الظواهر التي لا تلبث خبرات الشعوب أن تستوعبها ، وأن تتجاوزها بعد أن تنكشف نتائجها وتظهر مخبوءاتها ، وإذا كانت الشعوب فيما قبل ثورة الاتصال قد كانت تستغرق دهورا قبل أن تنكشف لها النتائج وتظهر المخبوءات ، فإن سرعة الاتصالات وحرية تدفق المعلومات دون سلطان لأحد عليها قمينة بتقصير تلك الفترة يشكل كبير ، وهي كفيلة بتقريب اتفاق الناس في الرأي حولها على صورة غير مسبوقة في التاريخ ، وتلك ولاشك تعتبر من المفارقات المدهشة للعولمة ، وما أكثر المفارقات التي أتت بها العولمة !