(3) نموذج النظام العالمي الجديد (المنشود) :
يقوم هذا النموذج على الاقتناع بأن ما تواجهه الإنسانية اليوم من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية إنما يكمن مصدرها الأساسي في المظالم الجوهرية التي يكرسها النظام العالمي القائم حاليا (أي منظومة الترتيبات المؤسسية و الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول ، بل والعلاقات بين الجماعات في داخل الدول ذاتها) ، فهو نظام عالمي خاضع للتحكم من جانب عدد قليل من الدول الغنية القوية التي تسيّر النظام العالمي وتتلاعب به كيف تشاء لخدمة أغراضها ، على حساب بقية دول العالم المهمّشة التي لا تكاد تملك من أمرها شيئا والتي تحاول تلك الدول إبقاءها على ضعفها لتستمر هيمنتها عليها ، ونتيجة لذلك نرى أن تلك الدول الفقيرة تزداد فقرا على فقرها ، فتغرق في مستنقع الديون ، وتنتهي إلى الانهيار تحت وطأة هذه المعاناة الإنسانية الرهيبة .
ومن هنا فإن هذا النموذج يسعى إلى إصلاح وإعادة بناء النظام العالمي (الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والبيئي) بطريقة جذرية ، تقوم على العدالة الاجتماعية وتخفيف المعاناة البشرية ، مع التركيز على تحقيق أقصى مشاركة ممكنة للناس في توجيه شؤون تنمية مجتمعاتهم ، والتركيز على تلبية الحاجات الإنسانية الأساسية للناس في كل مكان ، والسعي لتحقيق العيش في سلام بين الناس ، مع المحافظة على بيئة هذا الكوكب لصالح الأجيال الحالية والمستقبلة ، من خلال التأكيد على مبدأ المشاركة في الانتفاع بالموارد البيئية بدلا من سياسات التبديد والإهدار السرِف.
ويرجح إستيس كفة هذا النموذج الثالث (نموذج النظام العالمي الجديد المنشود) الذي يراه جديرا بأن يتبناه المشتغلون بتعليم الخدمة الاجتماعية في تدريسهم لمقررات الخدمة الاجتماعية الدولية ، في ضوء ما نراه بوضوح من اتساع نطاق المشكلات الاجتماعية والقضايا الاجتماعية التي تهم الخدمة الاجتماعية الدولية ، مشيرا إلى أن الخدمة الاجتماعية تستطيع أن تقوم بدور قيادي في إثارة الشعور بتلك المشكلات الواسعة النطاق ، وفي توجيه جهود الإصلاح ومتابعتها وإعادة تركيزها على الهدف.
تلخــيص و خــاتمة
لقد انتهينا في هذه الدراسة إلى أن ما يشار إليه باصطلاح العولمة يتضمن جانبين أو وجهين ، أحدهما جدير بالترحيب به والاستفادة من ثماره المتمثلة في تيسير الانتقال بحرية ، وتيسير التواصل الفوري بل اللحظي بين الناس على تباعد المسافات ، مع ثراء وتنوع المعارف والمعلومات المتاحة ، وتيسير تبادلها والتعاون في إنتاجها دون حدود تقريبا ، وأما الوجه الآخر فهو جدير بالانتباه إليه والوعي به في كل صورة من صوره ، وهو جدير بالحذر منه كل الحذر ، لما رأيناه من رغبة جارفة لدى قوى العولمة النشطة ، العاملة بكل دأب وإصرار على استغلال اللحظة لتكريس تسلطها وهيمنتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية على الشعوب المستضعفة ، وصوغ حياة تلك الشعوب على صورتها ضمانا لاستمرار هيمنتها وتسلطها-- ولكن بصورة مجانية وبدون أي مجازفة بأبنائها في ميادين القتال ، لأن الدعاة والجنود بهذه الطريقة المبتكرة سيكونون من أبناء تلك الشعوب المقهورة أنفسهم.
وقد أشرنا إلى أنه ليس من المناسب اتخاذ مواقف متقوقعة تحرمنا من الاستفادة من الثمار العظيمة للحظة التاريخية الرائعة التي نعيش بداياتها الأولى ، كما أنه ليس من المناسب الاندفاع الأرعن غير المحسوب جريا وراء الوعود المستحيلة التحقيق ، أو رعبا من وعيد أضرار وقوعه أخف من سوء عواقب تنفيذ ما يأمر به ، وأوضحنا أن الجدير بنا حقا بذل الوسع دون تردد أو تقاعس لفهم طبيعة التحولات الجذرية التي بدأت معالمها في الظهور أمامنا فهما دقيقا … فهما صحيحا… فهما متوازنا ، مع التقويم الواعي للنتائج المحتملة للخيارات الممكنة -لا الخيارات المطروحة- مع غربلة البدائل في ضوء القيم الأصيلة لمجتمعنا ، والتفضيلات التي حفظت علينا وجودنا رغم العواصف والأنواء الأشد عنفا وضراوة على مدى تاريخنا الطويل.
والأخصائيون الاجتماعيون بطبيعة عملهم هم شهود معايشون لنتائج التحولات الاجتماعية التي خاضتها بلادنا في العقود الستة الماضية ، وهم شهود على نتائج القرارات الاقتصادية والسياسية التي تقلبت فيها بلادنا خلال تلك الفترة ، وهم كمهنيين يملكون من القاعدة العلمية ومن المهارات الفنية ومن الخبرات المتراكمة ما يؤهلهم للقيام بدور رائد في بلورة السياسات الاجتماعية الملائمة لمواجهة الموقف ، والعمل على حشد القوى لمساندة تلك السياسات ، وإثارة الاهتمام بالقضايا والمشكلات المطروحة ، وبيان النتائج المترتبة عليها ، و المساعدة في اختيار البدائل الأكثر ملاءمة لتلبية حاجات الفئات الاجتماعية الصامتة ، وتصميم البرامج المحققة لذلك كله ، مع تبني حقوق الفئات الضعيفة وبذل الوسع في التوسط أو المدافعة عنها كلما كان ذلك لازما.
ومن الواضح أن من الأولويات التي سيكون على الخدمة الاجتماعية أن توليها اهتماما خاصا في ضوء التحديات المعاصرة القيام بدور أساسي في تنمية الموارد البشرية ، وإعداد الفئات المتضررة من التحولات التكنولوجية أو المزاحة في إطار سياسة الخصخصة للعمل في ظروف متغيرة ، والقيام بدراسات العائد الاجتماعي ، وتبني ومتابعة الجوانب الاجتماعية في التخطيط الاقتصادي ، مع إعطاء اهتمام خاص لقضايا العدالة الاجتماعية ، وقضايا التوزيع و إعادة التوزيع ، ولا شك أن هذا كله سيتطلب إعطاء مزيد من الاهتمام بالعمل مع الوحدات الكبرى ، كما يتطلب الابتكار والقيام بمشروعات تجريبية يتم في إطارها اختبار أفكار التدخل غير التقليدية التي تتطلبها المرحلة الراهنة.
ولعل من المناسب في ختام هذا البحث أن نشير هنا بكلمات متفائلة قدمها جيمس ميدجلي في معرض حديثه عن الفرص التي تتيحها العولمة أمامنا لاستثمارها كمهنة تعمل في نطاق دولي أو كوني (Midgley : 62, 65):
(1) تتيح العولمة أكثر من أي وقت مضى الفرصة لتبادل الخبرات والتعلم من الآخرين.
(2) تتيح العولمة الفرصة لإثراء القاعدة المعرفية للمهنة من خلال المشاركة في الأنشطة الدولية.
(3) لما كانت لبعض المشكلات الاجتماعية أبعادها الدولية (كمرض نقص المناعة المكتسب وإدمان المخدرات) فإن فهم تلك الأبعاد الدولية نتيجة للاحتكاك مع المهنيين في مختلف الدول يساعد على رفع كفاءة المهنة في مواجهتها.
(4) تتيح البحوث المقارنة حول برامج و سياسات الرعاية الاجتماعية اختبار الفروض على نطاق واسع مما يساعد على بلورة أطر نظرية أكثر دقة.
(5) مع تزايد فرص التبادل بين الأخصائيين الاجتماعيين والتعاون حول تحقيق أهداف التنمية الاجتماعية فإن أمام المهنة فرصة ذهبية لتجاوز المداخل والصياغات العلاجية التقليدية ، والتحول إلى النماذج التنموية الجديدة للممارسة ، التي تعطي اهتماما خاصا للتنمية الاقتصادية.