حظيت نحلة العسل بعناية إلهية خاصة، لم تتكرر في أمثالها من المخلوقات. ومع أنها لم تـُعط َ قدراً كافياً من الذكاء لتفكر وتعمل ؛ وتخطئ وتصيب ؛ كما يفعل الإنسان، إلا أنها ا ُعدَّت بإحكام ٍ و وُجّهت بدقةٍ للوصول إلى غاياتٍ ساميةٍ كُلـِّفت بتحقيقها، وذلك عن طريق ما أوحي إليها من إلهام إلهي متتابع وجه سلوكها ؛ بَدءاً من تأمين السكن (اتخذي ) والمؤونة (كلي ) إلى سلوك (اسلكي ) السبل التي سُخِّرت لها وخُصصت بها وحدها . واستقرت هذه التوجيهات الإلهية مع كل ما يتعلق بها في غريزتها الموروثة، أو كما يقال بلغة العصر بُرمٍجت بكل المعلومات الدقيقة الهائلة ذات العلاقة، لتصبح جهازاً حياً مبرمجاً، يعمل تلقائيا بسلاسةٍ وأمانة، لا يحتمل خطأ ولا انحرافاً، ويسمو على أي تحديثٍ في كيانه ومنهاجه، لأنه فـُطر تامَ الكمال. وقد ربط أول الهام ٍ الهمت به النحل ما بين إتخاذ السكن و مصادر الغذاء، وحدد لها ثلاث مناطق جغرافية غنية بتلك المصادر ؛ تتوزع فيها ؛ وتتخذ بيوتاً في ما يصلح للسكن منها، لتتمكن الطوائف و الطرود التي تنشأ منها أن تعيش وتنمو في بيئة طبيعية ملائمة، دون انتشار عشوائي يُفضي إلى المجاعة ثم الهلاك. و حُصرت تلك المناطق الجغرافية الغنية : بالجبال الخضر، والشجر المنتشر في الأراضي الخصبة، ثم بما يهيئ الإنسان لسكنها في الحقول المزروعة. وظلت تلك الأمكنة الخضرُ الثلاث، وما تزال، وستبقى إلى ما شاء الله المراعيَ المناسبة لعيشها وتكاثرها. ولم يتفق في يوم ما أن عُثر على طائفة تعيش في بيئة مغايرة، على الرغم من التنوّع البيئي وسَعة انتشارِ النحل في أرجاء المعمورة، وفي ذلك مصداق لقوله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم : و أوحى ربك الى النحل أن إتخذي من الجبال بيوتاً و من الشجر و مما يعرشون ) النحل 68. تبدأ الطائفة بناء مسكنها أولاً بأقراص قليلة ؛ باستهلاك العسل الذي ملأت به حواصلها قبل الإنفصال من طائفتها الأُم. ثم تنطلق بنشاط الى جمع الرحيق واستهلاكه في توسيع السكن وبناء أقراص شمعية جديدة ؛ ويكلفها البناء ثمناً باهضاً حين تستهلك أكثر من ( كغم من العسل لفرز (1) كغم من الشمع ؛ تستخدمه في بناء نخاريب سداسية مختلفة ؛ لتربية الحضنة و خزن الغذاء. بعد أن تَفرغ َ النحل من تلبية النداء الأول وتستقرَّ عصبياً ومكانياً تُلهم بطلب ٍ ثان ٍ يستنهضها إلى السعي في طلب الرزق ( ثمّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ )، الثمرات التي تعرّفتها في برمجتها فقط، وليس كلّ ما يصادفها منها ، فقد خلق الله ما لا يحصى من الثمرات وأمرها أن تأكل منها، مع إستثناءات جُعلت لصالحها. وهنا نقطة يجب إيضاحها : لا تمتلك النحلة فكوكاً ًقاطعة تجرح قشور الثمرات مهما كانت رقيقة لامتصاص العصارة السكرية، لأن فكوكها المستديرة اُعدَّت لتشكيل الشمع وبنائه، ولكن يمكنها أن تمتصّ من عصارة ثمرةٍ ناضجةٍ مهشمة أو ثمرةٍ إنفطرت قشرتها لفرط نضجها أو ثمرةٍ سبق إليها زنبورٌ أو طائر أحدث جرحا ً فيها وأخذ جزءا ً من عصارتها. والملاحظ في هذه الأحوال أن ما تحصل عليه النحلة من عصارة قليلٌ لا يفي بحاجتها ولا يخالطه شيءٌ من حبوب اللقاح التي هي عماد (خبز النحل)، لذلك لابدّ من الرجوع إلى الزهرة التي هي أصل الثمرة، والتي يجتمع فيها غذاء النحل كاملاً، ومعروف أن غذاء النحل يتكون من العسل الذي يمدها بالطاقة، ومن حبوب اللقاح التي تشكل العنصر الرئيس في الطعام و تحتوي على البروتينات و الفيتامينات و الدهون و الأحماض الأمينية و الأملاح المعدنية و غيرها. ويتضح من آية النحل الثانية أن الثمرة بمثابة الزهرة، وأن الزهرة هي المعنية بلفظ الثمرة، يؤيد هذا ما جاء في سورة الرعد في (الآية 3) في قوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكرًا وأنثى، (حبة اللقاح) عضو الذكورة و(البويضة) عضو الأنوثة قد خُلقا في الزهرة ؛ أول الثمرة ومادتها. وبالتالي لذلك يمكن القول أن (ثمّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) تعني والله سبحانه وتعالى أعلم: ( وقد إستقرّ بكِ المقامُ في ملاذٍ آمن ؛ خذي الطعام لكِ ولأفراد طائفتكِ من كلِّ الأزهار التي اُرشدت ِإليها، وسُخِّرت لمدِّكِ ِ بالغذاء، وابتعدي عما لا عِلمَ لكِ به من الأزهار ). وتقضي النحلة وقتا ً طويلاً من عمرها القصير في غدو ٍ ورواح ٍ بين الخلية والحقل ؛ تلقح عَرَضا ًما تقف عليه من أزهار، وتجمع منها ما تستطيع من غذاء ؛ مستعينة ًـ لإرشاد زميلاتها إلى مكان الغذاء وهنَّ في ظلام الخلية ـ بحركات ٍ راقصة تحدد المسافة وتعيّن الاتجاه ؛ مستفيدة ً من موقع الشمس من خلال ضوئها المرئيِّ و المستقطب. والزهرة من جانبها لا تكفّ عن إغراء النحلة وجذبها بعطرها القويِّ ورحيقها الحلو المذاق وبحبوب لقاحها ذاتِ القيمة الغذائية العالية. وأمَّن هذا الترابط بينهما المصدرَ الغذائيَّ الكاملَ للنحلة والتلقيحَ الخلطيَّ المضمون للزهرة، إلا أن النحلة لا تقترب من زهرة أو تطير مسافات ٍ بعيدة ً تبحث عنها إلا إذا كانت موثـَقة ضمن برمجتها الفطرية، التي تشمل رائحة الزهرة ولونَها
صورة لنحلة العسل وهي تعود إلى الخلية محملة بغبار الطلع
وتصميمَها و مرونةَ تمايلها وساعة عطائها ومدى بُعدِها ويُسرَ تناولِها وسلامةَ نِتاجها وتركيز فروزها وثراءَ َُحبوب ِ لقاحها وروائحَ تُنثر عليها وحولها وأشعة ً تنعكس عليها وتكشف عمّا خفِيَ من رحيقها وأشياءَ أُخرى غيرَ معروفةٍ الله أعلم بها، حِفاظاً على النحلة من زهرةٍ تميتها وأخرى تعبث بها..... وهذا يبيّن سبب إهمالها لعديد من أنواع الإزهار، جزئياً او كلياً، فهي لا تمتص الرحيق من (زهرة الكمثرى ) لأن تركيز السكر فيه 20% وأقلّ، وهي نسبة مُتدنية مُجهدة، و تكتفي منها بأخذ وفرةٍ من حبوب اللقاح.. ولا تحاول زيارة (زهرة الخطميّ) إلا لِماماً لخلوّها من الرحيق، ثمّ لا تجد في حبوب اللقاح فيها ما تريد من مواد ذات قيمة غذائية عالية، وهكذا لا تزور (أزهار الزيتون والطماطم ) وغيرها لفقرٍ في محتوياتها.. ولا تبدد طاقتها و تضيع وقتها في التردد على مثل ( زهرة الفلّ ) ذات العطر الفوّاح ؛ لخلوّها من حبوب لقاح و رحيق.. وتُعرِض عن ( زهرة العسل ) وأمثالها مع ما في رحيقها من وفرةٍ وعطر لطيف ؛ لقصر خرطومها وعجزه عن الوصول الى مواضعه في العمق.. ثم هي تبتعد عن زيارة ( زهرة الدفلى ) وأشباهها لِما فيها من سمّ قاتل!! وهنا ينبغي أن نذكر أنه ليس في برمجتها ما يُبعدها عن خطر السموم الكيمياوية ؛ الخالية من روائح طاردة، ولذلك يمكن أن تقتل َ السّموم الكيمياوية النحلةَ و مع آلاف ٍ من أفراد طائفتها فيما إذا وقعت على زهرة تتردّد عليها لـُوِّثت بالمبيدات. وهذا ما يحصل تماماً حين تجمع النحل ُ الحقلية ُحبوبَ اللقاح ِ الملوّثة بالسم من زهرتها المفضلة وتطير بها إلى خليتها، لا تستهلك شيئا منها في الطريق، تضعها في نخاريبها ثم تعود لنقل المزيد، وحين تتغذى بها النحل ُ ويرقاتـُها تتمّ إبادة ُ آلاف الأفراد حتى ينفد الأكل ُ الملوّث ُ بالكامل، وبذلك يُقضى على نصف الطائفة أو أكثر.... أما الرحيق ُ الملوّث بالسموم فتستهلك جزءا ً منه في طريق العودة، ويسقط آلاف منها قبل الوصول إلى الخلية، والقليل الذي يستطيع الوصول بحمولته المسمّمة تستلمها النحل المنزلية منه، وتهلك بدورها قبل أن تـُتم ََّ إنضاجَها وخزنَها.... فتأمّل هذا التدبيرَ الإلهي َّ المعجز! الذي أ دخل في حسبانه أيامَنا وسمومَها، وأحكم السُبُل َ لِتخطـّيها، فقتل النحلة ليضمن السلامة للإنسان، وحال دون وضع الرحيق المسمم في الخلية في الوقت الذي سمح فيه للنقيِّ منه أن يُوضع ويُنضَّجَ ويُختم، ويبقى دائماً وأبداً شرابا ً مباركا ً ً فيه شفاءٌ للناس. لقد ثبت أن الإرهاق الذي يصيب النحلة الحقلية جرّاء جمع طعامها يقلل من عمرها، ولو أنها جرت وراءَ كلِّ زهرةٍ تتفتح لانخفض معدل أعمارها إلى حدٍ تشرف فيه على التلف، ولكنها تعلمت أن تبتعد عما لا يخدمها من أنواع الأزهار، ليس بطريق التجربة والخطأ، إذ لا وقتَ لديها للتجارب ؛ ولا تدركُ ما تفعل، ولكن بإعجاز إلهي أرشدها على نحوٍ سليم لا فرصة فيه للخطأ ولا إرادةَ لها معه إلى ما ينبغي لها أن تـُقبل عليه أو تـُدبر عنه، وأودع في جيناتها الوراثية هذه القدرات الراسخة، وجعلها إرثا ً عاماً للأجيال الجديدة، كل بدوره على تعاقب السنين. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (طه 50)