يحكى أن عصفورا كان يعيش في
بستان تملؤه المروج الخضراء , سعيدا مع أسرته المكونة من زوجه وابنه ،وهبه
الله حكمة وبصيرة نافذة استطاع من خلالهما أن يكون سيد قومه من العصافير
ومرجعهم, فلما شب ابنه أراد تعليمه الطيران كي يعول نفسه ويستقل بذاته فبدأ
بتدريبه ,وكان ابنا ذكيا فطنا كأبيه , فاستوعب دروس الطيران سريعا, فأخذته
الحماسة فأراد الطيران لوحده. فلما رأى الأب حماسة ابنه العصفور وتعجله
الطيران, أراد أن يعلمه ويوصيه فقال
له : أي بني أراك في عجالة من أمرك
فلا تعجل في أمر هو آت إليك لا يمنعه إلا قدر مكتوب ,ولا تعجل في الخروج
من عشك الذي يؤويك حتى يشتد جناحيك,وإذا اشتد جناحيك وأصبحت قادرا على
الطيران فتأكد إلى أي جهة تريد؟ وماذا
تريد ؟ فإن ذلك أدعى لتنظيم وقتك , وترتيب مسار يومك وغدك .
وإذا
طرت فقم باكرا وارتفع كثيرا عن النجائس التي قد تعترضك ,فإنها مصائد
الشيطان وكلاليبه, وإياك والنظر إليها فلربما راودتك نفسك بالنظر إليها
وقالت لك إنك بعيد عنها, فيلحقك شرود في ذهنك فينحرف طيرانك ويتغير مسارك ,
ولا تسترح إلا في مكان نظيف يأتيه الهواء من كل جانب حتى لاتعلق بك
الأوساخ ولا يذبل جناحيك, فإن بذلك مدعاة للحيطة والحذر إذا ما حدث طارئ,
ولا تأكل وتشرب إلا ما يصلح لك ويصلح لتركيبك الخلقي فكل من خشاش الأرض
هنيئا مريئا, ودع أكل غيرك من اللحوم وغيرها فإن بها الآفات والأمراض لأنها
لم تخلق لك,وإذا ما صادقت فصادق من تخرج أنت وهو من مسلاخ واحد , فتكونا
في خطين متوازيين فلا تصطدمان أبدا, فإن بذلك راحة واطمئنان , وإذا ما
واجهتك محنة فاجعل منها منحة تقوي بها جناحيك وتشد بها أزر نفسك ,وكن
كالحديد يصقله الطرق ولا تكن كالخشب لا يزيده الطرق إلا فتاتا , وإذا رأيت
ملهوفا ذا حاجة فضع نفسك مكانه, فتنفلق بك مشاعر الرحمة , وساعده ودله على
طريق يهتدي به ,ويهوّن عليه أمره فبذلك تكون قد نشرت فضيلة ورمّمت نفسا
كانت آيلة للسقوط وإذا مر بك شيء تجهله فاسأل من مر به هذا الشيء من قبل
فلعلك تجد الحل عنده, فيكفيك مئونة البحث فتدخره لشيء أهم , فإن الحياة وعر
طريقها كثيرة مشاكلها, وإياك ثم إياك والغرور والعُجْب واستعض بمن كانت به
هذه الأمراض فإن بها قتل
الهمة وعمى البصيرة وكن متواضعا فإنه وقودك في الطيران فما تواضع مخلوق إلا ورفعته الخلائق ورضي عنه الرحمن.
ولا
تحتقرن حجمك أمام باقي المخلوقات فإن الحجم الحقيقي كامن بالهمة فإنه
الإحساس الذي لا يملأه قالب ولا يحده حد , وابتعد عن الخوض فيما تجهله
فتُمتهن كرامتك ويقل قدرك وتكن مطمعا وطعاما يسهل أكله, واكتف بالاستماع
حتى تفهم فتعرف كيف تدخل ؟ وكيف تخرج ؟ وإياك وسرعة الحكم على الشيء قبل أن
تنظر إليه من كل زواياه ومن كل جوانبه فتتضح لك الصورة ثم احكم , وإذا ما
أردت استرخاء من عناء فكن إيجابي التفكير والعطاء ,ولتنظر إلى الشجر المثمر
فإن سر بقائه أتى من عطائه .أي بني ولا تنسِِِ وطنك وعشك فإنا معاشر الطير
قد جبلنا على حب الأوطان , فهو هواؤنا وغذاؤنا, فلا تبتعد عنه إلا لضرورة
وعد عاجلا إليه عندما تنتهي تلك الضرورة فإنك أحد أعمدته وهو حياتك فهو قد
يجد غيرك أما أنت فلا وطن لك سواه .أي بني ماقلته لك هي وصية أبي لي وستكون
وصيتك لأبنائك فعض عليها بالنواجذ, فإني اليوم معك وقد تكون غدا من دوني .
فخفق العصفور بجناحيه لوالده أن سمعا وطاعة وقال له : سأنقش ذلك في قلبي
,فتبسم العصفور الأب واطمأن على ابنه , ووقفا على حافة العش لكي يبدآ في
التحليق , ويسبحا في فضاء وطنهما ويملآ رئتيهما من هوائه النقي في آخر رحلة
تدريب قبل أن يفترقا وقبل أن يجابه العصفور الابن الحياة .