تحرص المطاعم الفرنسية على تقديم أطباق الطعام وكأنها لوحات لبيكاسو. الفن حاضر بأبعاده حتى في تقديم الأطعمة. حين تختفي التفاصيل في تقديم الطبق الفرنسي، يختفي الفن. لكأنهم (الفرنسيون)يصرون على أن يكون حاضراً في كل شيء... في الشارع، المطاعم، والصالات المفتوحة على الأفق. الإنجليز صارمون في كل شيء، بدءاً بالتحية النادرة في الشارع، وخصوصاً مع الغرباء، مروراً ببطء تراكم العلاقات مع أولئك الغرباء، وليس انتهاء بالمطبخ. المطبخ الانجليزي صارم على بساطته وربما فقره. أقول فقره، مقارنة بالمطبخين الفرنسي والإيطالي. الهنود والعرب والأتراك ومواطنو جنوب شرق آسيا والصينيون دفعوا بالمطبخ الانجليزي إلى التخلص من صرامته، لكنه بابتعاده عن أولئك يظل متورطاً في الصرامة والفقر معاً. المطبخ الأميركي، خليط من مطابخ الدنيا. فسيفساء من الخبرات والتنوع... من اللوحة... الصرامة وحتى المرح. انفتاح على خليط من الخبرات لأنه مجتمع قائم على التعدد. خليط من الأجناس والأعراق. الطعام/ المطبخ هناك يعبِّر عن ذلك التنوع والتعدد. المطبخ الإيطالي، هو الآخر مهتم بالتفاصيل... باللوحة؛ ولكنه يصر على أن يقدمها من دون إطار. يتركها هكذا رهناً للأفق. الأفق إطارها العملاق. المطبخ الإيطالي فيه امتداد وتأثر. الثقافة المتوسطية منحت المطبخ الإيطالي غنى ونهماً على الانفتاح. اللوحة حاضرة في الطبق الإيطالي؛ ولكنها لوحة لا تدفعك إلى قراءتها أولاً. تدفعك إلى الدخول مباشرة في درس الإجهاز عليها. بعكس اللوحة/ الطبق الفرنسي. في العصر العباسي وصل المطبخ إلى ذروته؛ إذ يشير عدد من المؤرخين إلى أنه أحصي في مائدة واحدة أقامها المأمون العباسي لخواصه من الأمراء والأعيان وقادة الجند والعلماء والفقهاء، أكثر من 250 نوعاً من أطايب الطعام، بدءاً بالنخاعات ومُقَل الطيور، وليس انتهاء باللحوم البيضاء والحمراء والحلوى التي تجاوزت أنواعها في مائدة واحدة أكثر من مئة نوع. كانت الحضارة قد وصلت إلى ذروتها، ولم يتم التراكم والتنوع في المطبخ العربي وقتها إلا بعد استقرار وهيمنة طالت أوجه الحياة جميعاً. المطبخ العربي اليوم، يكاد يكون محتفظاً باليسير من ثقافته وأصله. جلّه وفد من وراء البحار وتكاد لا تخلو مائدة عربية اليوم من دخيل على القائمة، وما تبقى من تلك القائمة هو في الحقيقة مشاريع لتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم والسكَّري، وبعض آخر بمثابة أقراص للنوم! لو انفتح العرب اليوم على العلوم والمعارف، انفتاحهم على مطابخ الدنيا لكان المطبخ اليوم آخر همهم، لأنهم سينشغلون بتأثيث مصير العالم إلى الأفضل، جنباً إلى جنب أمم أخرى.