إليكم :
روي أن أحدَ الولاةِ كان
يتجول ذات يوم في السوق القديم متنكراً في زي تاجر
، وأثناء تجواله
وقع بصره على دكانٍ قديمٍ ليس فيه شيء مما يغري بالشراء ، كانت البقالة شبه
خالية ، وكان فيها رجل
طاعن في السن ، يجلس بارتخاء على مقعد قديم
متهالك ، ولم يلفت نظر الوالي سوى بعض اللوحات التي تراكم عليها الغبار
،
اقترب الوالي من الرجل المسن وحياه ، ورد الرجل التحية بأحسن منها ،
وكان
يغشاه هدوء غريب ، وثقة بالنفس عجيبة ..
وسأل الوالي الرجل : دخلت
السوق لاشتري فماذا عندك مما يباع !؟
أجاب الرجل بهدوء وثقة : أهلا
وسهلا .. عندنا أحسن وأثمن بضائع السوق !!
قال ذلك دون أن تبدر منه
أية إشارة للمزح أو السخرية ..
فما كان من الوالي إلا ابتسم ثم قال
: هل أنت جاد فيما تقول !؟
أجاب الرجل : نعم كل الجد ، فبضائعي لا
تقدر بثمن ، أما بضائع السوق فإن لها ثمن محدد لا تتعداه !!
دهش
الوالي وهو يسمع ذلك ويرى هذه الثقة ..
وصمت برهة وأخذ يقلب بصره
في الدكان ، ثم قال :
ولكني لا أرى في دكانك شيئا للبيع !!
قال
الرجل : أنا أبيع الحكمة .. وقد بعت منها الكثير ، وانتفع بها الذين
اشتروها ....!
ولم يبق معي سوى لوحتين ..!
قال الوالي : وهل
تكسب من هذه التجارة !!
قال الرجل وقد ارتسمت على وجهه طيف ابتسامة
:
نعم يا سيدي .. فأنا أربح كثيراً ، فلوحاتي غالية الثمن جداً ..!
تقدم
الوالي إلى إحدى اللوحتين ومسح عنها الغبار ، فإذا مكتوباً فيها فكر قبل
أن تعمل ) ..
تأمل الوالي العبارة طويلا .. ثم التفت إلى الرجل وقال
: بكم تبيع هذه اللوحة ..!؟
قال الرجل بهدوء : عشرة آلاف دينار فقط
!!
ضحك الوالي طويلا حتى اغرورقت عيناه ، وبقي الشيخ ساكنا كأنه لم
يقل شيئاً ،
وظل ينظر إلى اللوحة باعتزاز ..
قال الوالي :
عشرة آلاف دينار ..!! هل أنت جاد ؟
قال الشيخ : ولا نقاش في الثمن
!!
لم يجد الوالي في إصرار العجوز إلا ما يدعو للضحك والعجب ..
وخمن
في نفسه أن هذا العجوز مختل في عقله ، فظل يسايره وأخذ يساومه على الثمن ،
فأوحى إليه أنه سيدفع في هذه اللوحة
ألف دينار ..والرجل يرفض ،
فزاد ألفا ثم ثالثة ورابعة حتى وصل إلى التسعة آلاف دينار .. والعجوز ما
زال مصرا على
كلمته التي قالها ، ضحك الوالي وقرر الانصراف ،
وهو
يتوقع أن العجوز سيناديه إذا انصرف ، ولكنه لاحظ أن العجوز لم يكترث
لانصرافه ،
وعاد إلى كرسيه المتهالك فجلس عليه بهدوء ..
وفيما
كان الوالي يتجول في السوق فكر ..!!
لقد كان ينوي أن يفعل
شيئاً تأباه المروءة ، فتذكر تلك الحكمة ( فكر قبل أن تعمل !! )
فتراجع
عما كان ينوي القيام به !! ووجد انشراحا لذلك ..!!
وأخذ يفكر وأدرك
أنه انتفع بتلك الحكمة ، ثم فكر فعلم أن هناك أشياء كثيرة ،
قد
تفسد عليه حياته لو أنه قام بها دون أن يفكر ..!!
ومن هنا وجد نفسه
يهرول باحثاً عن دكان العجوز في لهفة ، ولما وقف عليه قال :
لقد
قررت أن أشتري هذه اللوحة بالثمن الذي تحدده ..!!
لم يبتسم
العجوز ونهض من على كرسيه بكل هدوء ، وأمسك بخرقة ونفض بقية الغبار عن
اللوحة ،
ثم ناولها الوالي ، واستلم المبلغ كاملاً ، وقبل أن ينصرف
الوالي
قال له الشيخ : بعتك هذه اللوحة بشرط ..!!
قال
الوالي : وما هو الشرط ؟
قال : أن تكتب هذه الحكمة على باب بيتك ،
وعلى أكثر الأماكن في البيت ،
وحتى على أدواتك التي تحتاجها عند
الضرورة ..!!!!!
فكر الوالي قليلا ثم قال : موافق !
وذهب
الوالي إلى قصره ، وأمر بكتابة هذه الحكمة في أماكن كثيرة في القصر ، حتى
على بعض ملابسه وكثير من
أداواته !!!
وتوالت الأيام وتبعتها
شهور ، وحدث ذات يوم أن قرر قائد الجند أن يقتل الوالي لينفرد بالولاية ،
واتفق مع حلاق الوالي
الخاص ، ولما توجه الحلاق إلى قصر الوالي
أدركه الارتباك ، إذ كيف سيقتل الوالي ،
إنها مهمة صعبة وخطيرة ،
وقد يفشل ويطير رأسه ..!!
ولما وصل إلى باب القصر رأى مكتوبا على
البوابة : ( فكر قبل أن تعمل !! )
وازداد ارتباكاً ، وانتفض جسده ،
وداخله الخوف ، ولكنه جمع نفسه ودخل ، وفي الممر الطويل ، رأى العبارة
ذاتها تتكرر
عدة مرات هنا وهناك : (فكر قبل أن تعمل ! ) ( فكر قبل
أن تعمل !! ) ( فكر قبل أن تعمل ) .. !!
وحتى حين قرر أن يطأطئ رأسه
، فلا ينظر إلا إلى الأرض ، رأى على البساط نفس العبارة تخرق عينيه ..!!
وزاد
اضطرابا وقلقا وخوفا ، فأسرع يمد خطواته ليدخل إلى الحجرة الكبيرة ، وهناك
رأى نفس العبارة تقابله وجهاً لوجه !!(
فكر قبل أن تعمل ) !!
فانتفض
جسد ه من جديد ، وشعر أن العبارة ترن في أذنيه بقوة لها صدى شديد ! وعندما
دخل الوالي هاله أن يرى أن
الثوب الذي يلبسه الوالي مكتوبا عليه :
(فكر
قبل أن تعمل !! ) ..
شعر أنه هو المقصود بهذه العبارة ، بل داخله
شعور بأن الوالي ربما يعرف ما خطط له !!
وحين أتى الخادم بصندوق
الحلاقة الخاص بالوالي ، أفزعه أن يقرأ على الصندوق نفس العبارة :
)فكر
قبل أن تعمل (
واضطربت يده وهو يعالج فتح الصندوق ، وأخذ جبينه
يتصبب عرقا ، وبطرف عينه نظر إلى الوالي الجالس فرآه مبتسما
هادئاً
، مما زاد في اضطرابه وقلقه ..!
فلما هم بوضع رغوة الصابون لاحظ
الوالي ارتعاشة يده ، فأخذ يراقبه بحذر شديد ، وتوجس ، وأراد الحلاق أن
يتفادى
نظرات الوالي إليه ، فصرف نظره إلى الحائط ، فرأى اللوحة
منتصبة أمامه ( فكر قبل أن تعمل ! ( ..!!
فوجد نفسه يسقط منهارا بين
يدي الوالي وهو يبكي منتحبا ، وشرح للوالي تفاصيل المؤامرة !!
وذكر
له أثر هذه الحكمة التي كان يراها في كل مكان ، مما جعله يعترف بما كان
سيقوم به !!
ونهض الوالي وأمر بالقبض على قائد الحرس وأعوانه ، وعفا
عن الحلاق ..
وقف الوالي أمام تلك اللوحة يمسح عنها ما سقط عليها
من غبار ، وينظر إليها بزهو ، وفرح وانشراح ، فاشتاق لمكافأة ذلك
العجوز
، وشراء حكمة أخرى منه !!
لكنه حين ذهب إلى السوق وجد الدكان
مغلقاً ، وأخبره الناس أن العجوز قد مات !!
انتهت القصة ..
ولكنها عندي ما لم تنته .. بل بدأت بشكل جديد ، وفي صورة أخرى .!
سألت
نفسي :
لو أن أحدنا كتب هذه العبارة مثلا :
(الله
يراك..الله ينظر إليك..الله قريب منك.. الله معك .. يسمعك ويحصي عليك ..)
كتبها
في عدة أماكن من البيت ، على شاشة جهاز الكمبويتر مثلاً ،
وعلى
طاولة المكتب ، وعلى الحائط الذي يواجهه اذا رفع رأسه من على شاشة الحاسوب ،
وفوق التلفاز مباشرة يراها وهو
يتابع ما في الشاشة !!
وعلى
لوحة صغيرة يعلقها في واجهة سيارته ، وفي أماكن متعددة من البيت ، وفي مقر
عمله ...!!
(الله يراك..الله ينظر إليك..الله قريب منك.. الله
معك .. يسمعك ويحصي عليك ....)
(الله يراك..الله ينظر إليك..الله
قريب منك.. الله معك .. يسمعك ويحصي عليك )
بل لو أن هذه العبارة
لكثرة ما فكر فيها ، وأعاد النظر فيها ، استقرت في عقله الباطن ، وانتصبت
في بؤبؤ عينيه ، واحتلت
الصدارة في بؤرة شعوره ، وتردد صداها في
عقله وقلبه ، حيثما حملته قدماه ، رآها تواجهه ..ونحو هذا ..
(الله
يراك..الله ينظر إليك..الله قريب منك.. الله معك .. يسمعك ويحصي عليك ..)
أحسب أن شيئا مثل هذا لو نجح أحدنا فيه ، سيجد له اثراً بالغا في حياته ،
واستقامة سلوكه ، وانضباطاً في جوارحه ، وسيغدو
مباركا حيثما كان
..!!